سورة الحشر - تفسير تفسير الثعالبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحشر)


        


{لأنتم} يعني يا معشر المسلمين {أشد رهبة في صدورهم من الله} أصل الرهبة والرهب الخوف الشديد مع حزن واضطراب والمعنى أنهم يرهبون ويخافون منكم أشد من رهبتهم من الله {ذلك} أي الخوف منكم {بأنهم قوم لا يفقهون} يعني عظمة الله تعالى: {لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة} أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران وهو قوله تعالى: {أو من وراء جدار} وقرئ جدر {بأسهم بينهم شديد} أي بعضهم فظ على بعض أو عداوة بعضهم بعضاً شديدة وقيل بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله {تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى} أي متفرقة مختلفة قال قتادة أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم مختلفة شهاداتهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق وقيل أراد أن دين المنافقين وآراءهم يخالف دين اليهود وآراءهم {ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} ثم ضرب لليهود مثلاً فقال تعالى: {كمثل الذين من قبلهم قريباً} يعني مشركي مكة {ذاقوا وبال أمرهم} يعني القتل ببدر وكان ذلك قبل غزوة بني النضير وقال ابن عباس «كمثل الذين من قبلهم» يعني بني قينقاع وقيل مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان {ولهم عذاب أليم} أي في الآخرة ثم ضرب مثلاً آخر للمنافقين واليهود جميعاً في تخاذلهم وتخلى بعضهم عن بعض فقال تعالى: {كمثل الشيطان} أي مثل المنافقين مع بني النضير وخذلانهم إياهم كمثل الشيطان {إذ قال للإنسان اكفر} وذلك ما روي عن عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين وقال ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاء في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي فلحقه جبريل عليه السلام فدفعه إلى أقصى أرض الهند لإبليس أنا أكفيك أمره فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه وكان لا يفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام مرة فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل الصومعة فلما انفتل برصيصا من صلاته اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة على هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه أي لام نفسه حين لم يجبه فقال له إنك ناديتني وكنت مشتغلاً عنك فما حاجتك قال الأبيض حاجتي أني جئت لأكون معك فأتأدب بأدبك وأقتبس من عملك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال برصيصا إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما للمؤمنين نصيباً إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً فلما انفتل بعدها رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض قال له ما حاجتك؟ قال حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولاً يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوماً مرة ولا ينفتل عن صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا إني منطلق فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما رأيت وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته لما رأى من كثرة اجتهاد ولما ودعه الأبيض قال له إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهو خير لك مما أنت فيه يشفي الله بها السقم ويعافي بها المبتلى والمجنون قال برصيصا أنا أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلاً وإني أخاف إن علم الناس شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال قد والله أهلكت الرجل فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه؟ قالوا نعم فعالجه فلم يفد فقال لهم إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب قال انطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل ولها ثلاثة إخوة وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عم تلك الجارية ملك بني إسرائيل فخنقها وعذبها، ثم جاء إليهم كما كان يأتي الناس في صورة متطبب فقال لهم أعالجها؟ قالوا نعم فقال إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سارشدكم إلى من تثقون به تدعونها عنده فإذا جاء شيطانها دعا لها فإذا علمتم أنها قد عوفيت تردونها صحيحة قالوا ومن هو؟ قال برصيصا قالوا وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأناً من ذلك قال فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جنب صومعته حتى تشرف عليه فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها وقولوا له هذه أمانة عندك فاحتسب أمانتك قال فانطلقوا فسألوه ذلك فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ثم انطلقوا فوضعوا الجارية في صومعتها وقالوا يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته حتى عاين الجارية وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب الشيطان عنها ثم أقبل برصيصا على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا فجاءه الشيطان وقال له ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك فتدرك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل كذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها فقال له الشيطان ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب؟ فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها فلم أقف عليه فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها بالليل فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجاً من التراب ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال ويحك إن برصيصا فعل فعل بأختك كذا وكذا وإنه دفنها في موضع كذا وكذا فقال هذا حلم وهو من الشيطان إن برصيصا خير من ذلك فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث به فانطلق الشيطان إلى أوسطهم فقال الأوسط مثل ما قال الأكبر ولم يخبر به أحداً فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك قال الأصغر لأخويه والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط أنا والله قد رأيت مثله فقال الأكبر أنا والله قد رأيت مثله فانطلقوا إلى برصيصا فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا فقال أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا لا والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن طرف إزارها خرج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوه في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم معهم الفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا وأنزلوه منها وكتفوه ثم انطلقوا به للملك فأقر على نفسه وذلك أن الشيطان أتاه فوسوس له فقال له تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة فلما صلب أتاه الأبيض فقال يا برصيصا أتعرفني؟ قال لا فقال أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات وكنت إذا دعوت بهن يستجاب لك ويحك ما اتقيت الله في أمانتك خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل أما استحيت فلم يزل يعيره ويعنفه حتى قال في آخر ذلك ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت أشباهك من الناس وفضحت نفسك فإن مت على هذه الحالة لن تفلح أبداً ولن يفلح أحد من نظرائك قال فكيف أصنع؟ قال تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك قال وما هي؟ قال تسجد لي قال ما أستطيع أفعل قال بطرفك افعل فسجد له برصيصا فقال يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، {فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين}


{فكان عاقبتهما} يعني الشيطان وذلك الإنسان {أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين} قال ابن عباس ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير فدس المنافقون إلى اليهود وقالوا لا تجيبوا محمداً إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم فأجابوهم ودربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله فكان عاقبة الفريقين النار قال ابن عباس فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون في بني إسرائيل إلا بالتقية والكتمان وطمع أهل الفسق والفجور في الأحبار ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان من أمر جريج الراهب ما كان فلما برأه الله مما رموه به من الزنا انبسطت الرهبان بعده وظهروا للناس وكانت قصة جريج على ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب يوسف وكان جريج رجلاً صالحاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فيها فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها معهم، فقالت إن شئتم لأفتننه لكم قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم فقالوا زنيت بهذه البغيّ فولدت منك فقال أين الصبي فجاؤوا فقال دعوني حتى أصلي فصلى؟ فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا له نبني لك صومعتك من ذهب قال أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة ذو شارة حسنة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل عليه فنظر إليه فقال اللهم لا تجعلني مثل هذا ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع قال فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها قال ومر بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقالت اللهم اجعلني مثلها فهنالك تراجعا الحديث، فقالت مر رجل حسن الهيئة فقالت اللهم اجعل إبني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها فقال إن ذلك الرجل كان جباراً فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها».


قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} أي لينظر أحدكم إلى شيء قدم لنفسه من الأعمال عملاً صالحاً ينجيه أم سيئاً يوبقه والمراد بالغد يوم القيامة وقربه على الناس كان يوم القيامة يأتي غداً وكل ما هو آت فهو قريب، {واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} قيل كرر الأمر بالتقوى تأكيداً وقيل معنى الأول اتقوا الله في أداء الواجبات ومعنى الثاني واتقوا الله فلا تأتوا المنهيات {ولا تكونوا كالذين نسوا الله} أي تركوا أمر الله {فأنساهم أنفسهم} أي أنساهم حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيراً ينفعها وعنده {أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} لما أرشد المؤمنين إلى ما يصلحهم بقوله: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} هدد الكافرين بقوله نسوا الله فأنساهم أنفسهم بين الفرق بين الفريقين بقوله لا يستوي أصحاب النار يعني الذين هم في العذاب الدائم وأصحاب الجنة يعني الذين هم في النعيم المقيم ثم أتبعه بقوله أصحاب الجنة هم الفائزون ومعلوم أن من جعل له النعيم المقيم فقد فاز فوزاً عظيماً.
قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} قيل معناه أنه لو جعل في الجبل تمييزاً وعقلاً كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع أي تطأطأ وخضع وتشقق وتصدع من خشية الله والمعنى أن الجبل مع صلابته ورزانته مشقق من خشية الله، وحذر من أن لا يؤدي حق الله تعالى في تعظيم القرآن والكافر مستخف بحقه معرض عما فيه من العبر والأحكام كأنه لم يسمعها.
وصفه بقساوة القلب فهو غافل عما يتضمنه القرآن من المواعظ والأمثال والوعيد وتمييز الحق من الباطل والواجب مما لا يجب بأحسن بيان وأوضح برهان ومن وقف على هذا وفهمه أوجب له الخشوع والخشية وهذا تمثيل لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع والخشية إلا أن يخلق الله تعالى له تمييزاً وعقلاً يدل على أنه تمثيل.
قوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} أي الغرض من هذا التمثيل التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وقساوتها وغلظ طباعهم.
ولما وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمته فقال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة} يعني أنه تعالى أعلم بما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه وعلم ما شاهدوه وما علموه وقيل استوى في علمه تعالى السر والعلانية والموجود والمعدوم وقيل علم حال الدنيا والآخرة {هو الرحمن الرحيم} اسمان مشتقان اشتقاقهما من الرحمة وهما صفتان لله تعالى ومعناهما ذو الرحة ورحمة الله إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه وقيل إن الرحمن أشد مبالغة من الرحيم ولهذا قيل هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن إحسانه تعالى في الدنيا يعم المؤمن والكافر وفي الآخرة يختص إحسانه وإنعامه بالمؤمنين {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك} أي المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه المالك لهم فهم تحت ملكه وقهره وإرادته {القدوس} أي الطاهر عن كل عيب المنزه عما لا يليق به وقيل هو الذي كثرت بركته {السلام} أي الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق.
فإن قلت على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس والسلام فرق فيكون كالتكرار وذلك لا يليق بفصاحة القرآن.
قلت الفرق بينهما أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب والنقائص في الماضي والحاضر والسلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب والنقائص في المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته ولا يبقى سليماً وقيل السلام أي سلم خلقه ممن ظلمه، {المؤمن} قال ابن عباس هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه وقيل هو المصدق لرسله بإظهار المعجزات لهم والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب {المهيمن} قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء وقيل هو القائم على خلقه برزقه وأنشد في معناه:
ألا إن خير الناس بعد نبيه *** مهيمنه التاليه في العرب والنكر
أي القائم على الناس بعده وقيل هو الرقيب الحافظ، وقيل هو المصدق وقيل هو القاضي وقيل هو بمعنى الأمين والمؤتمن وقيل بمعنى العلي ومنه قول العباس يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في أبيات منها:
حتى احتوى بينك المهيمن من *** خندف علياً زانها النطق
وقيل: المهيمن اسم من أسماء الله تعالى هو أعلم بتأويله وأنشدوا في معناه:
جل المهيمن عن صفات عبيده *** ولقد تعالى عن عقول أولي النهى
راموا بزعمهم صفات مليكهم *** والوصف يعجز عن مليك لا يرى
{العزيز} أي الذي لا يوجد له نظير وقيل الغالب القاهر {الجبار} قال ابن عباس الجبار هو العظيم وجبروت الله عظمته فعلى هذا هو صفة ذات وقيل هو من الجبر يعني الذي يغني الفقير ويجبر الكسير فعلى هذا هو صفة فعل وهو سبحانه وتعالى كذلك يجبر كل كسير ويغني كل فقير وقيل هو الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما أراد: وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال هو القهار الذي إذا أراد أمراً فعله لا يحجزه عنه حاجز وقيل الجبار هو الذي لا ينال ولا يداني والجبار في صفة الله تعالى صفة مدح وفي صفة الناس ذم وكذلك {المتكبر} في صفة الناس صفة ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكبر كان كذاباً في فعله فكان مذموماً في حق الناس وأما المتكبر في صفة الله تعالى فهو صفة مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة ولهذا قال في آخر الآية: {سبحان الله عما يشركون} كأنه قيل إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصاً في حقه أما الله تعالى فله العلو والعظمة والعزة والكبرياء فإن أظهر ذلك كان ضم كمال إلى كمال قال ابن عباس المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل هو الذي تكبر عن كل سوء وقيل هو المتعظم عما لا يليق بجماله وجلاله وقيل هو المتكبر عن ظلم عباده وقيل الكبر والكبرياء الامتناع، وقيل هو ذو الكبرياء وهو الملك سبحان الله عما يشركون أي من ادعاء الكبر لأنفسهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5